[size=21]لفصل الثاني
]المنظر الاول
المنظر نصفان, نصف مضاء ونصف مظلم, في النصف المضاء الأيمن غرفة سعيد, ولها باب يؤدي إلى المطبخ, وأثاثها بسيط
[سعيد ـ ليلى]
**ليلى :
واتتني الجرأة أنْ آتي لأزورك
بيتك يبدو أجمل مما تحكي عنه
**سعيد :
بل أصبح أجمل حين دخلِته
هل أصنع لك شاي ?
**ليلى :
شكراً يا حبّي
سلوى سألتني اليوم
متى نتزوج
**سعيد :
ماذا قلتِ لها ?
**ليلى :
قلت لها ما أعرف
أنى لا أعرف
**سعيد :
ماذا قالت ?
**ليلى :
سألتني أن أسألكَ
**سعيد :
هل يعنيها الأمر ?
**ليلى :
سلوى تتمني لي الخير
**سعيد :
هل أمك في خير ?
**ليلى :
أمي ?
**سعيد :
أفليست زوجهْ ?
**ليلى :
نعم
**سعيد :
وسعيدهْ ?
**ليلى :
لا أدري, لم أسألها عن هذا قَطّْ
أمي كالبركان المختومٍ
لا تتفتح أحياناً إلا مُلقية بالحممِ على رأس القدرِ المقسومْ
لكن الأيام تمرُّ, وقد شبِعَتْ منها
وابتسمت في أولها ما يكفيها زاداً لمرارة آخرها
فأبي يرقد في فرشته مشلولاً منذ سنين
أم لا تبرق عيناها إلا حين تميل عليه
حانيةً في شوق مكتوم
وأظن بأنهما قد نعما بالحب طويلا قبل هجوم العلّةِ والشيبْ
**سعيد :
هل أعجبك الشاي ?
**ليلى :
لا بأس
**سعيد :
أم ليست في خير ?
هل أنتِ سعيدهْ ?
**ليلى :
جدّا
**سعيد :
بمَ أنتِ سعيده ?
**ليلى :
بالحبِّ , وبِكْ
بحنانك ... بالأيام
وبأحلامي إن طافت في أفق الغد
عادت لي لتدغدغ قلبي في مرح وضّاء
بالنومٍ على صورتِك المرتسمةِ فوْق عيوني
كالزَّبدِ الطافي فوق الماء
بالصحوِ على أملِ اللقْيا
آه ما أسعدني
سأحدّثه ويحدّثني
فلينهمر الشعر المعقود على خدّي وعيني
ولأطلقه يغنِّي .. ويغنّي
ولأطرد ظلَّ الوَسَنِ النعسان
عن جسمي المثقل بالأحلام
ولأبرز مشرقة كي أتألق في بلورة عينيك الصافيتين
أتحطم ألفَ شعاع كي ألتمّ وأتحطم
لكن سعادتنا لا تكمل إلا ...
سعيد :
هل حبّك ناقص ?
**ليلى :
أتمنى لو عشنا في عشٍّ واحد
**سعيد :
تعنين ... سريرٍ واحد ?
**ليلى :
كالأزواج جميعاً يا حبّي
**سعيد :
أهو الجنس إذن ?
**ليلى :
بل هو تحقيق الحب
**سعيد :
الحب إذن وهمٌ دونَ الجنس ?
**ليلى :
بل هو شوقٌ ظمآنٌ يبغي أن يتحقق
**سعيد :
هل كلُّ الزوجات يمارسن الجنس بشوْق الحب ?
**ليلى :
لا أدري
**سعيد :
أمي كانت تسْتلقي في كتفي رجل تبغضه بغض الموت
كانت حين ينام سعيدا بفتوته المنهوكة كل مساءْ
تهرع للحمام لتستفرغ ما في معدتها من زادٍ أو ماءْ
قد سمَّمَهُ ريقُه
لا أبغي أن أفتحَ غرفة تذكاراتي السوداءْ
لكن , لا بأس إذا لم يضجرك حديثي
**ليلى :
افتحْ إنْ كان يريحك
**سعيد :
لا أدري هل يشفيني هذا أم يشقيني
مات أبي, وأنا ابن سنين عشرة
أتذكر ما زلت النعش الملفوف, وقد أُسِند للحائط
هل كان زجاجا أو خشبا,
لا أدري
فأنا أتخّيل أني كنت أرى من داخله جثة من كان إلى ساعاتٍ يؤوينى بين ذراعيه ..
فأحسُّ بأني أنساب إلى الأمن كما ينساب الحيوان إلى جحره
لكن الجثة كانت غائمة, يتماوج حول ملامحها شيء.. هل كان هو الموت ?
كنتُ وحيداً تعساً وسط الحجرة
هل كنتُ أولولُ وأنوحُ, كما ناحت أمي والنسوةُ منذ الصبح الباكر
أم كنتُ أتابع بعضَ الأصوات المتسللة من الخارج
أتذكَّرُ هذا الصوتْ
بائع صحف يذكر مصرع طلاب شهداء
كانوا يحتجون على شيء ما, أعرفه الآن
مات أبي في فرشته مطحون الصدر من الإعياء
يوم استشهاد الجرَّاحى ورفاقه
جاءت أمي بعد قليلٍ إذْ هبط الليل
مسحت خدّى, قالت
أنا أمك وأبوك
[يظلم الجزء الأيمن ويضىء الجزء الأيسر عن حجرة بالغة الفقر, لنرى سعيدا طفلاً وأمه نائمين]
**الطفل : أمي
أنا خائف
أيعود الموتى يا أميّ, حين يجئ الليلُ, وتخلو الطرقُ من الناس
**الأم :
نَمْ يا حبيبي نَمْ
ويا زمان ابتسمْ
للولد الجميلْ
يأتي لكَ الصباحْ
بالخير والنجاحْ
والأمل الظليلْ
**الطفل :
أمي
جوعان
**الأم :
ويلي من أيامي
روحي مترعة بالحزن
وقد اجتثت شجرتنا الوارفة الظل
وانهدمت بوابتنا المنقوشة بالريحان وبالفل
قلبي مخلوع بالخوف ...
يلقيني الصبحُ المتجهم في سجنِ الليلِ القاتم
لا يحنو لي إلا سِنة النوم وتهويم الحلم
نمْ يا حبيبي نمْ ويا زمان ابتسمْ
للولد الجميلْ
**الطفل :
أمي
جوعان
**الأم :
بعْنا آنية البيت
[يظلم المشهد الأيسر للحظة, ثم يضاء لنجد الطفل يدخل مسرعا, وقد كبر عاماً أو حول ذلك, قادماً من الشارع حيث كان يلعب]
**الطفل :
أمي
جوعان
جوعان
**الأم :
أهلاً يا ولدي
ما أحلى قسماتك تضحك فيها شمس الصيف
**الطفل :
أمي
جوعان
**الأم :
بعنَا الدولابَ وإحدى المرتبتين
[ يظلم الجزء الأيسر لحظة, ثم يضاء, لنجد سعيدا نائماً في حضن أمه وقد طال قليلا, والغرفة خاوية أو تكاد..]
**الطفل :
أمي .. جوعان
جوعان
**الأم :
يا ولدي يا حبّة عيني
لم يبق لنا مما يعرض في السوق
إلا أنت بسوق الخدّامين
وأنا في سوق الحُبّ
نمْ يا حبيبي نمْ ويا زمان ابتسمْ
للولد الجميلْ
[ يظلم المشهد الأيسر, وينير المشهد الأيمن]
**سعيد :
ما زلنا في مدخل غرفة تذكاراتي السوداء
**ليلى :
(باكية) عانيت كثيراً يا حبّي
اسكُبْ ملح جراحك في قلبي
**سعيد :
قلبك ... لا يتسع لكلّ جراحي
هل نتقدم في الغرفة بعض الخطوات ?
[يضاء المشهد الأيسر, ويظلم الأيمن, الأم في ثوب أحمر فقير. الطفل نائم إلى جوارها]
**الأم :
سعيد
إنك ولد عاقل هل تذكر هذا الرجل الطيب. الرجل الطيب ذا الجلباب الأسود. يأتينا في بعض الأحيان. يحمل بين
ذراعيه خبزا وإداما. ويحبّك. أحيانا يقرص خديك
الورديين. أحيانا يتحسس خصلة شعرك. هذا الرجل
الطيب يبغي. يبغي أن يتزوجني. هل تعلم ما معنى هذا
يا حبّي الأوحد. سوف ينام إلى جنبى في بعض الأحيان.
قد يقرص خدَّي كما يقرص خديك. قد يتحسس شعرى.
وسيأتينا في كل مساء, أو في كل مساءين. إذ إنّ له
امرأةً أخرى. وسيأتينا دوماً يحمل خبزاً وإداما..
أعطانى عشرين جنيهاً. هل تشعر بالجوع أيا نور عيوني ?
[الضوء يخفت قليلا في النصف الأيسر لنرى رجلا فارع الطول, يرتدي جلباباً
ومعطفاً. أبرز ما فيه, فضلا عن طوله, حذاؤه الغليظ ذو الرقبة وشاربه
المبروم, يدخل بقدمه بين المرأة والطفل ]
**الرجل :
الليلة نحْس من أوّلها
ولد لكع لا يبغي أن يتزحزح
يابن النجسهْ
أوسع لي شبرًا أتمدّد فيه
**الأم :
(وهي تمسك حذاء الرجل)
صبرًا حتى يأوي الطفل إلى النوم
وتروق لنا الدنيا
**الرجل :
لا وقت لدي لكي أستمتع بدلالك
لن يحميك الطفل, فأنت امرأة نكدهْ
أرسلت لك اليوم طعاماً, فهل امتلأت بطنك
[يتحسس بطنها بحذائه]
وهل امتلأت بطنُك يا بن النجسه
نهم كالدوده
ورذيل أيضاً حين تبصبص بعيونك
[يتحسس بطنه بحذائه]
**الأم :
أرجوك
دعه وشأنه
إنك رجل طيب
لا تتحرش بغلام مسكين
**الرجل :
ها ! ها !
فى آخر زمن أتعلم من نجِسه
كيف أكون ـ كما قالت ـ رجلاً
لكني سأريك الآن
إني رجل , وزياده
[يحاول نزعها مـن الأرض فتتشبث بها, يهوي الرجل فوقها ويظلم المسرح تماما, وبعد لحظة نسمع صوت المرأة تتأوه ألما]
**الطفل : (باكيا بصوت مرتفع)
أمي .. أمي
[ يضاء نور النصف الأيمن ]
**سعيد :
هذا أنا أبكي
لم أبكِ كثيرا إذا علمني الزمن القاسي
فيما بعد
أن أبكي في أوراقي
**ليلى :
صنعتْ منكَ الأيام المرّة إنساناً حسّاسَا
**سعيد :
صنعتْ منّي الأيام المرة إنساناً مهزوماً
**ليلى :
لم لا تؤمن بالمستقبل?
**سعيد :
بل إني أخشاه لأني أومن به
أومن أنْ لابدَّ لكلِّ زمانٍ من مستقبل
أوشك أحيانا أن ألحظه لحْظ العين
ولهذا فأنا أبصره ملتفّا في غيمٍ أسود
**ليلى :
كيف ?
**سعيد :
فى بلدٍ لا يحكُم فيه القانون
يمضي فيه الناسُ إلى السجن بمحضِ الصدفهْ
لا يوجد مستقبلْ
فى بلدٍ يتمدّد في جثته الفقرُ, كما يتمدد ثعبانٌ في الرملْ
لا يوجد مستقبلْ
فى بلد تتعرى فيه المرأة كيْ تأكلْ
لا يوجد مستقبلْ
**ليلى :
سعيد
فكر في مستقبلنا نحن ...
**سعيد :
كانت أمي أيضاً تطمعُ في المستقبلْ
**ليلى :
سامحني أسعيد
إنك تتحدث عن حالَهْ
ليست أقدارُ الناسِ جميعاً في هذا السوءْ
**سعيد :
أنا لا أتحدث عن حالَهْ
بل أتحدث عن حالي
**ليلى :
فكّرْ في الحبّ
**سعيد :
بل إني لا أحيا إلا للحبّ
**ليلى :
سعيد
إني أتمناك
**سعيد :
أنا لك يا ليلى
**ليلى :
لي كي أحملك على أهدابي كالحلم المفقود
إنى أبغي أن أضعَكَ في عيني كالنور
سعيد
انظُر لي : والمسْني, وتحسّسني
إنى وتر مشدود
يبغي أن ينحلّ على كفَّيك غناءً وتقاسيمْ
**سعيد :
أوه ... الجنس
لعنتنا الأبديهْ
وجه الحب المقلوبْ
**ليلى :
لا , بل وجه الحب المبتسم
سعيد
جسمي يتمنّاك كما تتمنّى الطينة أن تُخْلَقْ
جسمي يتمنّاك كما تتمنّى النارُ النارْ
**سعيد :
وإذا انطفأتْ
**ليلى :
عادت فاشتعلتْ
**سعيد :
نار دنِسهْ
لا تنتج إلا دَنَسَا
**ليلى :
والأطفال ?
**سعيد :
أنجبَتِ النارُ الدنِسةُ من أمّي ستةَ أطفال
**ليلى :
سعيد .. حبيبي
وا أسفاه ..
إنّك خرِبٌ ومهدَّمْ
لا تصُلحُ إلاّ كي تتسكعَ في جدرانِ خرائبِك السوداءْ
وا أسفاه
أحببتُ الموت
أحببتُ الموت
[تنصرف نحو الباب]
[ ستار ]